- التمفصل الثاني: ويتجلى في كون المونيمات بدورها تقبل التمفصل إلى وحدات صغرى غير دالة هي الأحرف أو إذا شئنا الدقة الأصوات أو الفونيمات التي يمكن إعادة عزلها وإعادة استعمالها لتأليف كلمات وتأدية مضامين جديدة(نص " التمفصل المزدوج للغة" ص23). ويمثل هذا التمفصل المزدوج اقتصادا كبيرا للغة الإنسانية وهو تمفصل تفتقده لغة الرقص لدى النحل أو حتى لغة الصيحات فيما لو اعتمدها الإنسان. وقد ارجع برغسون هذا التميز إلى طبيعة تقسيم العمل في المجتمع الإنساني: فمن حيث أن الفرد لايولد كالنحلة مهيأ للقيام بعمل واحد محدد وحيث أن قائمة الأنشطة الممكن مزاولتها غير حدود فإن اللغة الإنسانية قد عكست هذا الإنفتاح والمرونة.(ثص: " الكلمات والأشياء" ص 19)
ليست اللغة خاصية إنسانية فحسب بل هي علامة مميزة للوجود الإنساني. وقد ذهب بعض الفلاسفة أمثال إرنست كاسيرر إلى حد القول بأن اللغة والإبداعات الرمزية عامة قد خلقت عالما رمزيا متوسطا بين الإنسان والعالم المادي بحيث أصبح إدراك هذا الأخير كما هو مستحيلا بغير التحويلات التي يخضعه لها العالم الرمزي. ومن هنا وصف الإنسان بكونه" حيوانا رامزا".(نص "الإنسان حيوان رامز" ص 14) وقد انتبه "مين دوبيران" في القرن 17إلى هذه الوظيفة الترميزية لدى صغير الإنسان أي الرضيع فقال: " حيث لايكون هناك قصد أو إرادة فليست هناك علامات بمعنى الكلمة، فالطفل لايبدأ حقا في استعمال العلامات إلا عندما يحول صيحاته وبكائه إلى علامات ينادي بها من حوله" وهو ماعبر عنه بنفنيست بقوله إن الإنسان بخلاف الحيوان يسمي إحساساته ولايكتفي بالتعبير عنها.. أما اللساني المعاصر نعوم تشومسكي فقد ذهب إلى أن الإنجازاللغوي الباهر الذي يظهر لدى الطفل يدفع إلى افتراض كفاية لغوية فطرية على شكل بنيات وقواعد يتم إخراجها من القوة إلى الفعل عبر مسلسل التعلم.
نقد وتقويم للأطروحات القائلة بأن اللغة خاصية إنسانية: هل نحن أمام أنوية مركزية egocentrisme ؟؟
يندرج تخصيص الإنسان باللغة ضمن تقليد فلسفي عريق يخص الإنسان بطائفة من المميزات الأخرى كالعقل، الوعي، التنظيم السياسي...بيد أن هذا الإمتياز قد بدأ في التصدع تحت الفعل المزدوج للعلوم الإنسانية وللعلوم الدقيقة وعلى رأسها علم بيولوجيا الأعصاب
الملاحظة الأولى أن اللغة لا تكون خاصية للإنسان إلا ضمن تعريف خاص للغة يتضمن من الشروط ما لا تستوفيه مسبقا أنماط التواصل الحيواني،كالتمفصل المزدوج أو التجريد. وكل تعريف خاص فهو تعريف اقصائي بالضرورة.. بيد أن انماط التواصل الحيواني تندرج كما رأينا ضمن تعريف عام للغة باعتبارها كل نسق من العلامات يتخد وسيلة للتواصل
وإدا كانت كل مقارنة بين اللغة الإنسانية و"اللغة " الحيوانية كلغة النحل مثلا تنتهي إلى إعلان محدودية القدرة التعبيرية لهذه الأخيرة وجمودها، فلابد من تنسيب هذا الحكم بتحديد مرجعيته: وبعبارة أخرى لغة النحل محدودة وقاصرة بالنسبة لمتطلبات الحياة الإجتماعية وتقسيم العمل في المجتمع الإنساني، بينما تصبح لغة كافية ومتوافقة و متطلبات الحياة الإجتماعية وتقسيم العمل لدى النحل كما أشار إلى ذلك برغسون.
إن تميز اللغة الإنسانية أو أية وظيفة أخرى لايجوّز اعلانها خاصية إنسانية، وإلا سنعتبر الإبصار خاصية للقطط أو للنحل وحدهما مادام بصرهما أكثر حدة ودقة وأقدر على إدراك الحركات السريعة والتمييز بين الألوان أو الإبصار في الظلام..!! وغيرها من القدرات الحيوية بالنسبة لهما لكنها ببساطة غير ضرورية للكائن البشري. وبصفة عامة فاللغة كالإبصار وظيفتان بيولوجيتان تقاس قيمتهما بمدى استجابتهما لحاجات الكائن الحي وتكيفهما مع ظروف معطيات محيطه.
من جهة ثالثة، تنبهنا أبحاث الفيلسوف الأمريكي David deGrazia في كتابه "إعادة الإعتبار للحيوان: الحياة النفسية والمكانة الأخلاقية" إلى أن للمقدرة اللغوية أبعادا أخرى غير الإنتاج والتلفظ ، الذي يركز عليه أغلب الفلاسفة، وأهم هذه الأبعاد الفهم، وهو القدرة على استيعاب المنطوقات وادراك مدلولاتها ومقابلاتها من الأشياء الواقعية أو ترجمتها إلى أفعال أو إلى مواقف وجدانية انفعالية. ومن السهل أن يلاحظ ذلك عند الطفل الصغير الذي يظهر قدرة هائلة على فهم كلام المحيطين به وهو عير قادر بعد على إنتاج الجمل بدوره. وقد دلت التجارب والملاحظات على قدرة بعض الحيوانات على فهم اللغة الإنسانية بفعل الألفة أو الترويض. وفي هذا الإطار يذكر DeGrazia التجارب التالية:
--استطاع لويس هيرمان وفريقه تدريب دلافين عى فهم حوالي 2000 جملة مكونة من علامات صوتية؛
--تمكن Kreiger و Shusterman من تدريب اثنين من أسود البحر على فهم حوالي 200 علامة؛
--أما الغوريلا الملقب ب koko فقد استطاع استيعاب حوالي 500 علامة وتوظيفها في جمل تصم بين ثلاث إلى ست كلمات...
وعليه فلابد من الإعتراف للحيوان إمكانية امتلاكه على الأقل لبعد من أبعاد المقدرة اللغوية متمثلا في الفهم .
الكلمات والأشياء: (علاقة اللغة بالواقع)
هذه اللغة التي تتوسط بيننا وبين الواقع أو عالم الأشياء، ماعلاقتها بهذا الواقع؟ وماعلاقة الكلمات بالأشياء؟ أهي علاقة طبيعية وعلاقة محاكاة أم علاقة اعتباطية؟ وإذاكانت اللغة وظيفة التعبير الكلامي عن الفكر، فما طبيعة علاقتها بهذا الأخير؟هل هي علاقة أسبقية وانفصال أم علاقة تزامن واتصال؟
لنبدأ أولا بعلاقة اللغة بالواقع: لاشك أن اللغةمجموعة علامات والعلامة في معناها العام هي كل شئ يمكن أن يتخده الفكر بديلا عن شئ آخر فيسمى الأول دالا والثاني مدلولا، وتوخيا للدقة يحتفظ السيميائيون بإسم العلامة للدال الذي لاتربطه بمدلوله أية علاقة يمكن تبريرها منطقيا أو طبيعيا كالراية رمزا للبلد، بينما يستعمل مفهوم الرمز في حالة وجود علاقة مبررة طبيعيا أو منطقيا أو ثقافيا كالميزان رمزا للعدالة أو الثعلب رمزا للمكر...(نص: الرمز والعلامة ص15) وعليه يمكن إعادة صياغة سؤالنا حول علاقة الكلمات بالأشياء بالقول: هل مفردات اللغة/اللسان علامات أم رموز؟
يرى الحس المشترك أن العلاقة بين الكلمات والشئ علاقة طبيعية، فهذا الشئ الذي أكتب عيه يحمل طبيعيا وبديهيا اسم الورقة ولايمكن أن ينفك عنه. وقد عبر أفلاطون على لسان" كراتيل "، في محاورة تحمل اسم هذا الأخير، عن التصور الطبيعي لعلاقة الكلمات والأشياء مستشهدا ببعض أسماء الأصوات كالخرير والحفيف... ولكن إذا استثنينا أسماء الأصوات onomatopés فما الذي يبرر إطلاق متوالية الأصوات" ش-ج- ر- ة " على هذا الكائن الذي نعرفه جميعا؟ يبدو أن العلاقة بين الدال والمدلول علاقة اعتباطية عرضية تندرج ضمن المواضعة والإتفاق خصوصا إذا تأملنا ارتباط المدلول الواحد بدالات مختلفة باختلاف الألسن. وعليه فأصوات اللغة ومايتركب منها من مونيمات ليست سوى علامات.
وقد سعى مؤسس علم اللسانيات الحديث" فيرديناند دو سوسير" إلى استجلاء طبيعة الدال والمدلول داخل العلامة اللسانية، فوجد أن اللسان ليس كما يبدو قائمة من الألفاظ والأسماء تقابل قائمة أخرى من الأشياء والمسميات و ليس الدال أيضا كما يتبادر للذهن كلمة أو لفظا بل بالأحرى صورة سمعية وما الفونيم سوى شكلها الخارجي المادي مما يسمح للواحد مثلا باستظهار قصيدة دون أن يحرك أدنى شفة؛ أما المدلول فهو تصور ذهني أو فكرتنا عن الشئ أو عن المعنى المجرد. ولاتحصل الدلالة اللسانية إلا باقتران صورة سمعية بتصور ذهني. وهكذا فالعلاقة بين الأشياء والتصورات الذهنية الممثلة لها هي علاقة طبيعية شبه كونية في حين أن العلاقة بين هذه الأخيرة والصور السمعية محض علاقة اعتباطية.ولكن هذه الإعتباطية لاتعني حرية الأفراد في اختيار الدال الذي يشاؤون للمدلول الذي يشاؤون، إن الجماعة هي مصدر هذه العلاقة (نص : "عملية الدلالة بالعلامة اللسانية" ص16-18)
والآن هل يمكن للتصورات الذهنية وما يرتبط بها من معان مجردة وعمليات ذهنية كالإستنتاج والتركيب والترتيب والربط وإبداع معان جديدة.. وغيرها من عمليات التفكير، هل يمكن لكل ذلك أن يوجد أو يتم بشكل سابق ومستقل عن الأداة الرمزية التي توفرها اللغة؟
علاقة اللغة بالفكر
ما طبيعة العلاقة بين الفكر واللغة بين وظيفتي التفكير والتعبير؟ وهل للفكر وجود سابق ومستقل عن اللغة؟ أم أنهما كيانان مترابطان متزامنان؟
كثيرة هي الوقائع والملاحظات التي تدفع للإستنتاج بإن الفكر سابق مستقل عن اللغة: فهناك من جهة تعدد الأنظمة الدالة بتعدد الألسن بل وتعدد أنساق العلامات التي يستخدمها الفرد الواحد للتعبير عن نفس الفكرة من حركات وإيماءات ورموز متنوعة مما يدفع إلى القول باستقلال الفكرة عن العبارة لإمكانية انفصال الفكرة عن علامة ما وارتباطها بأخرى: هناك إذن نوع من تعالي الفكر على أداته اللغوية. ومن ناحية أخرى يتبدى الفكر سابقا على اللغة عندما أبحث طويلا أوبدون جدوى عن كلمات مناسبة لفكرة أحسها حاضرة قبلا وبإلحاح. لهذه الأسباب يفترض الحس المشترك أننا نفكر أولا ثم نعبر ثانيا أي ننتقل بعد التفكير إلى إلباس أفكارنا كلمات ملائمة، أوكما قال دوبونالد في القرن التاسع عشر: « L’homme pense sa parole avant de parler sa pensé »
وفي مثل هذه الحالة لن تكون الكلمات والجمل سوى أداة بعدية تساعد على إظهار منتوج عملية التفكير التي تتم قبل وبدون اللغة. وإذا كانت الكلمات والجمل ضرورية لتبليغ نتاج عملية التفكير للآخرين فإنها بالمقابل غير ضرورية لحدوث عملية التفكير ذاتها. هنا تحصل مقابلة أو معارضة الوظيفة المعرفية للفكر بالوظيفة التواصلية للغة.
يمكن أن نجد سندا لهذا الأطروحة في الموقف الفلسفي لديكارت وبالأخص في ثنائية النفس/الجسم: فالفكر لامادي مرتبط بالنفس بل هو طبيعتها المميزة لها، أما اللغة فتنتمي للجسم بسبب طبيعتها المادية (الأصوات، الكتابة...)ومن غير الممكن تصور علاقة اتصال بين هاتين الطبيعتين المتمايزتين، إلا أن تكون اللغة مجرد أداة أو وسيلة للتعبير عن الفكر القائم بذاته. لهذا ينعت مثل هذا التصور بالتصور الأداتي للغة. فإلى أي حد يصمد هذا التصور أمام النقد وإلى أي حد يعبرفعلا عن حقيقة العلاقة بين اللغة والفكر؟
يعتبر الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلوبونتي واحدا من الفلاسفة المعاصرين الذين توقفوا مطولا عند هذه العلاقة الإشكالية بين اللغة والفكر مستخدما المنهج الفينومينولوجي المعتمد على وصف المعطيات المباشرة للوعي قبل تدخل النشلط الإدراكي التنظيمي للعقل، ليبين المآزق النظرية للتصور الأداتي الذي يعتبر اللغة والفكر كيانان متمايزان في حين أنهما سيرورتان متزامنتان.لاينبغي على مستوى التعبير وصف اللغة بكونها علامة أو لباسا للفكرلما يفيده ذلك من اعتباطية العلاقة وانفصالهما كما ينفصل الدخان عن النار رغم كونه علامة عليها،والأجدر بنا وصفها بجسد الفكرأو شعاره لأن كلا منهما محتوى في الآخر: فالمعنى يؤخد من الكلام؛ أو كما تقول اللسانيات البنيوية مع جوليا كريستيفا مثلا، فالمعنى لايوجد خارج شبكة التقابلات والإختلافات التي تجمع بين الكلمات المنتمية لنسق لساني ما. بل يمكن القول إن الكلام يملك قوة للدلالة خاصة به، بدليل أن المعاني الجديدة تظهر دائما بمناسبة اشتقاق ألفاظ أو تراكيب أو تعابير جديدة كما يفعل الأدباء . بل إن فعالياتنا الذهنية والمعرفية تتعامل مع الكلمات أكثر مما تتعامل مع الأفكار وإلا لماذا نتذكر كلمات وجملا على نحو أيسر مما نتذكر أفكارا بل إن استدعاء هذه يتطلب أولا استدعاء تلك؟ وبعبارة أخرى فالكلام هو الوجود الخارجي للمعنى وحضور الفكر داخل العالم المحسوس مثلما أن الفكر هو التمظهر الداخلي للكلام ، وليس التفكير الصامت كما يعتقد البعض تفكيرا بدون كلمات، إنه بالأحرى ضجيج خافت من الكلمات. وهذا ما أكدته الدراسات العلمية الحديثة في مجال فيزيولوجيا الدماغ: فقد وجد أن الباحات المسؤولة عن الكلام تنشط( أي تصدر إشارات كهروميغناطيسية) حتى عندما يفكر المرء في صمت. هكذا ينتهي ميرلوبونتي إلى التوحيد بين اللغة والفكر باعتبارهما وجهان لنفس السيرورة المعرفية، رافضا التصورات الفلسفية القائمة على ثنائيات اللغة/الفكر أو الخارج/الداخل.(نص: الفكر والكلام ص18)
وفي موضع آخر من كتابه فينومينولوجبا الإدراك، يؤكد ميرلوبونتي وحدة اللغة والفكر متسائلا: لماذا تكون الذات المفكرة نفسها في حالة عدم معرفة بأفكارها مادامت لم تعبر عنها ولو لذاتها؟ وبالتالي فالفكرة التي تكتفي بأن توجد بذاتها خارج نسيج الكلمات ستسقط في اللاوعي بمجرد ماتظهر. ومن ثم فنزوع الفكر نحو التعبير ليس نزوعا بعديا ثانويا، بل هو نزوع صميمي نحو الوجود والإكتمال.
وفي نفس السياق يرى دوسوسير بأن الفكر بمعزل عن الكلمات لايعدو أن يكون سديما أو عماءا ضبابيا أي كتلة غير متميزة. لذلك يتعذر التمييز بين فكرتين أو معنيين كالإحترام والتقديس مثلا دون الإستعانة بالوحدات اللسانية المقابلة لها. مما يسمح بالإستنتاج التالي: الفكر كتلة متصلة ممتدة لايمكن أن نتبين منه شيئا ما لم يتجزأ وينقسم وفق الوحدات اللسانية أي الكلمات، فهناك إذن علاقة جدلية ، الفكر واللغة فيها أشبه بوجهي ورقة النقد لايمكن تمزيق وجه دون المساس بالآخر.(نص: اللغة والفكر ص:25) ثم ماذا لو سألنا أنفسنا : مالفكر؟ إنه ماتنتجه فعالية التفكير؟ وماالتفكير؟ إنه من الوظائف العليا للدماغ وهو مفهوم يجمع سيرورات جزئية كثيرة: كالتذكر والتحليل والتركيب والمقارنة والترتيب والتجميع والتمييز والربط والفصل...إلخ ، ومن البين أن هذه السيرورات والعمليات المجردة غير ممكنة بدون أدوات رمزية هي الوحدات اللسانية.
كل ماسلف يؤكد العلاقة الجدلية وعلاقة التزامن لا الأسبقية بين اللغة والفكر.وقد عبرت عن ذلك اللغة اليونانية بأن أطلقت لفظة اللوغوس Logos على اللغة والعقل معا.ولكن هل تجيز هذه الدلائل الإسراع بإعلان أن حدود الفكرهي حدود اللغة ؟ وأنه حيث تتوقف هذه يتوقف ذاك؟
ينبغي التروي،إذ توجد دلائل أخرى كثيرة على امتداد الفكر خارج دائرة اللغة وأبعد من حدودها: منها لجوء العلماء إلى اصطناع لغات رمزية للتعبير عن العلاقات أو الوقائع التي يكتشفونها، ومنها تجاربنا الوجدانية التي تبلغ أحيانا من الخصوصية والحدة درجة يستحيل معها كل تعبير لغوي ، فيما يمدنا المتصوفة بدليل آخر من تجاربهم الروحية: فما يعيشونه من أحوال وما تحصل لهم من مشاهدات وما يبلغونه من مراتب إيمانية يتجاوز بكثير كل الإمكانت التعبيرية للغة المتداولة من هنا لجوؤهم إلى الرمزيات أو إحجامهم عن التعبير كما قال الغزالي: < كان ماكان مما لست أذكره <> فظن خيرا ولاتسأل عن الخبر، أو قول أكثرهم :" نحن أصحاب أحوال لاأقوال".أما الذين غامروا وتجراوا على الإفصاح والتعبير فقذ غمُضت عبارتهم وبدت صادمة للحس المشترك كقول الحلاج: "رأيت ربي بعين قلبي <>قال من أنت، قلت أنت !"
ولقد رد هنري برغسون عجز اللغة هذا إلى منشئها نفسه: فهي أصلا أداة ابتكرها العقل المنطقي المنشغل بالتعامل مع المادة والإستفادة منها عن طريق تجزيئها وإخضاعها للقياس وتصنيفها ضمن مقولات عامة، طلبا للأنتفاع والمردودية، ولايمكن لمثل هذه الأداة أن تعبر عما هو وجداني خاص متصل غير قابل للتجزئ وغير منطقي بالضرورة، عن تيار متدفق صفته أنه متصل كيفي أو "ديمومة" .يقول برغسون: "كل منا يحب ويكره بطريقته الخاصة، وهذا الحب والكراهية يعكسان شخصيته بكاملها. إلا أن اللغة ترمز إلى هاتين الحالتين بنفس الكلمات لدى كل الناس، فلا تعبر من ثم سوى عن الجانب الموضوعي اللاشخصي في الحب والكراهية وآلاف العواطف الأخرى."
إن الكلمات لاتأتي فقط غير متوافقة بل ومتأخرة أيضا : ففي ذروة الألم لانملك غيرالصياح فقط، ولانتكلم عن الألم لنصفه، أو أو بالأحرى لنصف ذكرياته ومخلفاته إلا بعد هدوئه أو زواله، لذا يقول ألفونس دوديه : "لنتساءل في البداية عن مدى قدرة الكلمات عن التعبير عن الألم الحقيقي، إنها تأتي دائما متأخرة بعد أن يكون كل شيء قد عاد إلى سابق أوانه. إن الكلمات لاتعبر سوى عن ذكريات فهي إذن كاذبة عاجزة"
==> نخلص من كل ماسبق إلى القول بأن اللغة ليست مجرد أداة للتعبير عن فكر جاهز ومكتمل. إن التفكير والتعبير سيرورتان متزامنتان ومظهران لنفس الوظيفة المعرفية المميزة للإنسان، دون أن يعني ذلك قدرة اللغة على استنفاذ غنى الفكر وامكاناته المتعددة.
الوظيفة التواصلية للغة
اللغة حسب ماعرفناها به هي نسق من العلامات التي تستهدف تحقيق التواصل والربط بين الذوات.فهل هي بهذا المعنى جسر أم عائق أيضا؟ بتعبير آخر:هل اللغة جسر يربط بين العوالم الداخلية للذوات البشرية المعتمة والمنفصلة عن بعضها بالتعريف؟ فتكون في هذه الحالة أداة شفافة للإخبار والإظهار ونقل المعلومة؟ أم أنها عائق أي أداة للإخفاء والإضمار؟ وهل تكتفي اللغة برسم علاقة محايدة بين المتكلم والمخاطب مكتفية بمجرد ربط العلاقة التواصلية أم أنها تحدد نمط هذه العلاقة تبعا لقواعد بنيتها الداخلية وبحسب السياقات الإجتماعية؟
لايمكن أن ننكر الوظيفة التواصلية للغة وأهميتها مقارنة بباقي الوظائف، ذلك أن ظهور اللغة نفسه يستجيب للحاجة الحيوية للتواصل داخل الجماعة البشرية. وقد تأمل اللساني الروسي رومان جاكبسون الفعل التواصلي اللغوي وفككه إلى ستة عناصر يرتبط بكل منها وظيفة خاصة مهيمنة: