الإستيلاب الإقتصادي: إستيلاب مرتبط بأشكال التنظيم الإجتماعي للشغل
إذا كان هذا المنظور التبخيسي للشغل يجد مبرره في النظام العبودي، فإن العامل سيتحول من عبد إلى قن في الفيودالية ثم أخيرا إلى أجير "حر" في الرأسمالية، بيد أن قوة عمله ستصبح أيضا سلعة كباقي السلع خاضعة لقوانين السوق كالعرض والطلب والعقلنة والاستغلال الأمثل، مما يعني بالنسبة للعامل تنازلا عن بعض مقومات كرامته. ومن خلال تتبع الحيثيات الملموسة لعملية الشغل يتبين أن استلاب العامل يتخذ معنيين: حرمانه من ثمار عمله واغترابه عن ذاته أثناء عملية الإنتاج.
إن العمل يكسب المادة الخام قيمة تبادلية جديدة تتجاوز بكثير قيمتها الأصلية، وهذه القيمة الأصلية تمثل الأجرة الطبيعة التي لا يعود منها لقوة العمل سوى نزر يسير مقارنة مع حصة رأس المال، بل إن العامل لم يكن يتقاضى في بداية الثورة الصناعية سوى ما يسمح له بالبقاء وتجديد قوة العمل، مما يعمق لديه الشعور بعقم ما يمثله هذا الكدح بالنسبة له هو نفسه مادام لا يمتع بالقيمة الحقيقية لقوة عمله. وبما أنه يبيع هذه الفاعلية الحيوية للغير فإن نشاطه الحيوي لايمثل بالنسبة إليه سوى وسيلة تمكنه من العيش، والشغل بالنسبة إليه لا يمثل جزءا من حياته وإنما تضحية بحياته من حيث أن مجهود عمله لايمثل غاية لفاعليته. وقد لاحظ ماركس في هذا الصدد بأن العامل لا يهمه من الحرير الذي ينسجه والذهب الذي يستخرجه سوى الأجرة، فيتحول الذهب والحرير إلى كمية معينة من وسائل العيش وربما إلى وجبة عشاء أو قميص صوف لماذا يشتغل إذن؟ ألمتعة الخلق أم بغريزية طبيعية ؟ ويجيب انجلز: كلا، أبدا إنه يشتغل من أجل المال، من أجل شيء لا يربطه أي شيء بالعمل في حد ذاته، يشتغل لأنه مرغم على ذلك.
يتمثل الاستلاب في هذا المستوى في شعور العامل بنوع من الاغتراب في شغله لأن هذا الشغل يتخد شكل مهمة إجبارية بدون حوافز مما يؤدي الى انفصال حياة العامل إلى شطرين: شطر أعظم لا ينتمي في الواقع إلى حياته وهي المدة التي يقضيها في العمل وإنتاج أشياء لا علاقة له بها، وشطر ضئيل يبدأ عند نهاية العمل والتوجه إلى المطعم للأكل أو إلى المقهى للهو أو إلى البيت للنوم... ومع مرور الوقت يزداد العامل كراهية لشغله لما يمثله من قهر، ولا يحس بأنه يتصرف بحرية إلا حين قيامه بوظائفه الحيوانية من أكل وشرب وإنجاب... وفي المقابل يحس بأنه حيوان حين قيامه بوظائفه الإنسانية الخالصة(أي الشغل)، فما هو حيواني- حسب ماركس - يصير إنسانيا و ما هو إنساني يصبح حيوانيا!
لقد دفع البحث المتزايد عن المردودية بالرأسمالية إلى البحث عن عقلنة متزايدة للعمل وذلك بتجزيئه إلى حركات ومهام بسيطة يتخصص كل عامل في جزء منها لزيادة الفعالية، بيد أن الشغل يغدو في الحالات القصوى مجرد حركات ميكانيكية رتيبة فاقدة للمعنى، يمكن أن تؤدي في المدى الطويل إلى نوع من التبلد الذي عبر عنه شابلن بطريقة ساخرة في فيلم الأزمنة المعاصرة، كما عبر عنه انجلز بقوله: "ترى كم يستطيع أن يحتفظ لنفسه بمشاعر ومواهب إنسانية في الثلاثين من عمره من اشتغل منذ صباه اثنا عشر ساعة في اليوم في صنع دبابيس أو برد دواليب مسننة؟! »
إن الإستيلاب يتجلى في هذه الحالة في فقدان العمل لمعناه واغتراب الإنسان عن ذاته أثناءه، بحكم رتابته وتقليصه للفاعلية الواعية التركيبية والنشاط الفكري للعامل، لكي يحصرها في حركات بسيطة متكررة. إنه شكل آخر من أشكال التشيئ.
الشغل كتحرر
هل نستخلص من ذلك أن الشغل متعارض مع ماهية الإنسان نافي لها وأنه مجرد عامل من عوامل الاستلاب؟
الواقع أن الماركسية التي أسهبت في كشف مظاهر هذا الاستلاب لا تربطه بطبيعة الشغل أو بمنظور احتقاري له – كما في الفلسفة اليونانية - ، بل بأشكال الشغل الخاصة بنمط الإنتاج الرأسمالي. أما الشغل في حد ذاته، فهو نشاط إنساني بامتياز بل إنه الشرط الأول لكل حياة إنسانية لدرجة يتعين علينا أن نقول بمعنى من المعاني إن الشغل قد خلق الإنسان: فبينما يستفيد الحيوان من الطبيعة الخارجية مباشرة، فإن الإنسان يحملها على خدمة أغراضه بما يدخله من تغييرات فيسيطر عليها. وهنا يكمن الفرق الجوهري بين الإنسان والحيوان، وهو فرق يدين به الإنسان للشغل! وليس تاريخ البشرية في الماركسية سوى تاريخ أنماط وعلاقات الإنتاج والتنظيمات الاجتماعية للشغل.
ويعتبر تمجيد الشغل على هذا النحو استمرارا لإعادة اعتبار بدأت مع عصر الأنوار وبعض حركات الإصلاح الديني كالبروتستانتية كما أوضح ذلك ماكس فيبر(حيث أصبح الشغل دينيا وسيلة للتطهر والتقرب)، وتجسدت بوضوح في مؤلفات اقتصاديين أمثال آدم سميث الذي جعل العمل معيارا لكل قيمة تبادلية ومصدرا حقيقيا لثروة الأمم وذلك في كتاب يحمل نفس الاسم (أنظر نص ). بل إن هيجل يجعل الشغل انبثاقا للإنسان عن طريق الوعي، ويضيف في كتابه الإستطيقا: « يوجد الإنسان من جهة مثل أشياء الطبيعة وجودا مباشرا، لكنه من جهة أخرى وجود من أجل ذاته يتجلى من خلال النشاط العملي. إن الإنسان مدفوع إلى أن يجد ذاته ويتعرف عليها في ما يعطاه مباشرة وما يعرض عليه من خارج، وهو يفعل ذلك من خلال تحويله للأشياء الخارجية التي يطبع بطابع دخيلته... والإنسان يسلك على هذا النحو – بما هو ذات حرة – من أجل أن ينزع عن العالم غرابته القاسية، وهذه الحاجة إلى تغيير الأشياء الخارجية مرسومة سلفا في الميولات الغريزية للطفل الصغير “. بل إن الشغل يلعب دورا حاسما حتى في جدلية العبد والسيد، يتمثل ذلك في كون العبد يغير الأشياء بواسطة الشغل مكتشفا ذاته وإبداعيته في منتجاته وفي سيطرته على الطبيعة، ليصبح تدريجيا متحكما في حياة وحرية السيد.
هكذا يتضح بأن الشغل لا يستهدف مجرد تغيير الطبيعة بل أنسنتها ومن ثم أنسنته الإنسان أيضا، وكما يقول إيمانويل مونييه فإن الشغل يفعل فعله في الإنسان كما يفعله في المادة. فالإنسان ليس مجرد كائن مفكر – كما تصورت الفلسفة اليونانية - بل كائن مزدوج مفكر/ صانع أيضا: إنه ليس مجرد كائن مفكر لا يعوق نشاطه أي عائق وليس مجرد كائن بيولوجي غارق في الطبيعة ومنشغل بالتلبية المباشرة لحاجة وكما قال جون لاكرو: ليس النشاط الحيوي للحيوان شغلا وليس التأمل الخالص الذي يقوم به الفكر شغلا، إن الشغل يقتضي النفاذ العسير للفكر داخل المادة.
قد يرى البعض أنه رغم كل ما يتضمنه الشغل من أنسنة للطبيعة وللإنسان، فإنه يظل منطويا على عوامل استلاب و تشيئ كثيرة بالنسبة للعامل، وهنا يدعو فريدمان إلى العدول عن هذه الطوباوية التي تريد تجعل من الشغل فرصة لازدهار الشخصية وسعادة الشخص وبالمقابل ينبغي اعتبار العمل - في ظل نظام الآلية الذي يوجه إليه اشد النقد – مجموعة مهام غريبة عن اهتمامات العامل، مهمة شاقة لمدة محدودة لا بد من توزيعها على أكبر عدد من الناس وكأنه خدمة اجتماعية يتعين على المرء أن يتحملها كمنتج من اجل أن يستمتع بها المستهلك، لأن العامل مستهلك كما هو منتج. وهكذا رغم ما يوجه إلى نظام الآلية في الصناعة من انتقاد، إلا انه لا يمكن إنكار مساهمة هذا النظام في تحرير الإنسان من كثير من الأعباء والأعمال الشاقة كالشحن والتفريغ والجر... كما ساهم في انتشار مهول للمواد الاستهلاكية وفي تحسن مستوى وظروف العيش حيث اصبح المستهلك يجد أمامه حلول وفيرة لتلبية حاجاته، وهذه الحلول تنعكس على حاجاته فتهذبها وتطورها، وكأن ازدياد معاناة الإنسان في الشغل يوازي تخفيف هذه المعاناة في جوانب حياته الأخرى وكان ما يحمله الشغل من استيلاب هو ضريبة ضرورية للتمتع بما يحمله من تحرر.
يضع الشغل الإنسان في موقع المراوحة بين زمنيين: يتحمل الإنسان بعض التضحيات كمنتج من اجل أن يستمتع كمستهلك، يحرم نفسه من بعض أوقات فراغه لكي يستمتع بما يستبقي منها، يتحمل عذاب الشغل لينجو من عذاب الحاجة والاحتياج، عليه أ ن يشتغل ولو شغلا روتينيا مملا حتى يستطيع العثور على تعويضات خارج الشغل في الثقافة وأوقات الفراغ المتنوعة حيث تجد الأذواق الشخصية فرص البروز والتعبير .أن هذين الزمنيين ليسا سوى ما عبر عند ماركس بمملكتي الضرورة و الحرية، حيث يقول إن مملكة الحرية لا تبدأ في الواقع إلا حينما ينتهي العمل الذي تفرضه الحاجة والضرورة الخارجية. لذا توجد هذه المملكة بالطبع خارج دائرة الإنتاج. ينبغي للإنسان أن يدخل في صراع مع الطبيعة لإرضاء حاجته و للمحافظة على حياته وتجديد قواه الحيوية، وفي ما بعد يبدأ ازدهار القوة الإنسانية التي تشكل قوة غاية لذاتها أي تبدأ المملكة الحقيقة للحرية.
إن الشغل يخضع ذات الإنسان لحركة جدلية من الإثبات والنفي: إثبات للذات من منطلق كونه مجهودا لتغيير العالم والطبيعة المادية والإنسانية ووسيلة لتحقيق الإندماج الإجتماعي بالنسبة للفرد،ولصناعة التاريخ بالنسبة للبشرية، وهو أخيرا نفي للذات بما يقوم عليه من موانع وما يمثله من إكراه وإلزام.