الطرح الإشكالي

 

يقول الفارابي: "أما أن السعادة هي غاية مايتشوقها كل إنسان، وأن كل من ينحو بسعيه نحوها فإنما ينحو على أنها كمال أقصى، فدلك لايحتاج في بيانه إلى قول إد كان في غاية الشهرة. » ويلاحظ أرسطو من جهته أن "عامة الناس وحكماءهم يتفقون على جعل السعادة الهدف الأسمى المنشود، لكن الآراء تختلف حالما يتعلق تأمر بتحديد طبيعة السعادة " . وبالفعل، فالكل يكد ويسعى لإمتلاك الأموال والثروات وتلبية كامل الرغبات واختبار ألوان المتع واستبعاد مسببات الألم والحرمان...
إن هدا البحث المحموم عن السعادة قد يمنع من التفكير المتأني في طبيعة السعادة نفسها، وفي حقيقة وجودها وفي سبل بلوغها والجهد اللازم لنيلها.
والفيلسوف يشاطر إنسان الحياة اليومية بحثه وشوقه إلى السعادة، لكن بحث الأول يتميز بنوع من المنهجية والنظرة المتأنية الفاحصة: إذ لايتعلق الأمر بإفراغ الجهد في الجري وراء السعادة، بل في صرفه أولا في تحديد شروطها وطبيعتها بما يتلاءم مع طبيعة الإنسان نفسه. وبعبارة أخرى لابد من معرفة السعادة وتعريفها أولا. فمن وجهة نظر فلسفية عامة: « السعادة هي حالة إرضاء وإشباع وارتياح تام للدات يتميز بالثبات والقوة... » والسؤال المطروح هنا هو: مالذي عساه يحقق مثل هذا إشباعا وارتياحا تاما يتميز بالقوة والثبات؟ ماهو الجانب الأساسي في الإنسان والذي يتعين أن نبحث له عن إشباع وارضاء وارتياح ؟ هل ستكون هذه السعادة من طبيعة حسية أم عقلية أم وجدانية؟ هل هي دائمة مستمرة أم لحظية بطبيعتها؟ هل تتحقق في اكتفاء الفرد بذاته واستغنائه عن غيره، أم انها رهينة بالاجتماع الملائم؟

السعادة بين البدن والعقل والقلب

السعادة واللذ ة الحسية

تقترن السعادة بالفرح والإشباع والسكينة بالتعارض مع التعاسة التي تقترن بالكرب والحرمان والحيرة، فما الذي يمكنه أن يدفع هذه ويجلب تلك؟
أول الأجوبة يقدمها لنا دعاة مذهب اللذة: فإذا كان نشدان اللذة واجتناب الألم هو الغاية الأولى والأخيرة من وجود الإنسان، فإن اللذة تغدو بدون شك معيارا تابثا لمختلف القيم بما في ذلك قيمة السعادة. لذلك لايرى أرستيبوس مبررا للخجل من البحث عن السعادة انطلاقا من البحث عن اللذة، فبقدر ازدياد عدد اللذات تزداد خبرتنا بالسعادة ومن ثم ينبغي اغتنام الفرصة لإقتناص أكبر عدد من اللذات الحاضرة دون تمييز أو مفاضلة. ولكي لاتتحول لذات الإنسان السعيد إلى آلام، عليه الإعتدال في تحصيل اللذات دون إفراط يقلبها آلاما، والإكتفاء بطلب اللذات الحاضرة فلا يعلق آماله على لذات لم تحضر بعد: إذ لايشقي الإنسان غير التطلع المستمر إلى الآتي.

السعادة والعقل

لم يجد الموقف السابق صدى واسعا بين فلاسفة الإسلام، وماذلك إلا لآن الإسلام لايعد كل اللذات خيرا مرغوبا، ولا كل الآلام شرا مكروها؛ على النقيض مما سبق، يذهب أكثر فلاسفة الإسلام إلى أن السعادة إنما تنال بالعقل حين يرتقي في معرفة نظام الوجود وصولا إلى معرفة الحق(الله). وفي هذا الصدديعتبر الرازي اللذات العقلية أشرف من اللذة الحسية لإختصاص الإنسان بلأولى، واشتراكه في الثانية مع الحيوان الذي يتفوق عليه في قوة تحصيل بعضها؛ ثم إن الإفراط في تحصيل بعضها يفضي إلى نقيضها وهي الآلام. بل إن حقيقة اللذة الحسية أنها ليست في الحقيقة لذة بل دفعا للألم والحاجة،لذلك يكون التلذذ بالأكل أقوى على قدر شدة الجوع الذي سبقه. كما تنتفي قيمتها بمجرد إشباعها. مما حذا بشوبنهاور - ضمن سياق فلسفي آخر - إلى وصف حياة الإنسان بساعة يتأرجح نواسها بين الحاجة والملل.
لهذه الأسباب فإن السعادة التامة إنما تكون من طبيعة عقلية تختص بها النفس (العارفة) دون البدن، ولما كانت فضيلة النفس تكمن في تحصيل العلوم والفضائل الأخلاقية، تغدو السعادة مرادفة للكمالين النظري والعملي. فأما الكمال النظري فهو الترقي في العلم بالموجودات حتى يصدق النظر وتصح البصيرة فلا يغلط المرء في اعتقاد ولايشك في حقيقة؛ أما الكمال العملي فهو ترتيب الأفعال والسلوك على مقتضى مانتهى إليه النظر العقلي. ولما كان العقل الإلاهي جامع المعرفة الحقة المطلقة، فالسعادة والكمال يتمان باتحادالعقل الإنساني بالعقل الإلاهي والإستمداد من فيض علمه. ومتى أحاطت النفس بكليات الموجودات ونظام الوجود، صارت عالما معقولا صغيرا موازياللعالم الموجود كله. وفي هذه المرتبة تكون النفس قد انفكت عن أغلال الجسد ومايجلبه من ألم مما يحصل وحسرة على مافات وجزع مما هو آت. إذ لايقع من الحوادث شيئا إلا وفق نظام الكون وقوانينه السرمدية. ومتى بلغ الإنسان ذلك فقد بلغ آخر السعادات وأقصاها، لايبالي فراق الأحباب في الدنيا ولايتحسر على مايفوته من التنعم فيها، مسرورا أبدا بذاته مغتبطا بحاله وبما يحصل له من فيض نور الحق.
نخلص مما سبق ان الشقاء عند الفلاسفة مصدره الجهل او العلم المغلوط، فتكون السعادة في تحصيل العلم اليقيني ودلك بالتأمل العقلي وصولا إلى معرفة العلة الأولى والحق الول والإستمداد من علمه السرمدي المحكم المحيط بكل شيء، فيعرف الحق ويتبع بيقين ويعرف الباطل فيجتنب بيقين.

السعادة والوجدان

يتفق المتصوفة والفلاسفة أن السعادة في معرفة الحق، غير أنهم لايرون العقل أهلا لهذه المهمة،فليست الحدود والأقيسة العقلية بقادرة على إدراك نور الحقوجلاله اللامتناهي. ومن هنا كان الإلهام والإشراق سبيلا السعادة يحصلان في القلب لاالعقل، لأن القلب أشرف اجزاء الإنسان شبيه بمرآة إدا صقلت وجليت صارت قابلة لتلقي نور الحق ، وذلك لايتأتى إلا بالمجاهدة والمكابدة والإقبال على الله تعالى والإنصراف عما دونه، من أجل التخلية ثم التحلية. يقوا السهروردي – أحد أئمة التصوف - : « إذا تزكت النفس، انجلت مرآة القلب وانعكست فيه أنوار العظمة الإلاهية ولاح فيه جمال التوحيد وانجذبت أحداق البصيرة إلى مطالعة انوار الجلال الإلاهي ورؤية الكمال الأزلي " . وهذه مرتبة لايبلغها من بقي منشغلا بالجسد وشهواته، أو توقف عند العقل وتأملاته.
وسواء تعلق الأمر بإبن عربي أو الحلاج او إبن الفارض او السهروردي،فإن سبيل التصوف إلى السعادة الحقة مقامات ومراتب وأحوال يتدرج فيها المتصوف حتى يصل إاى مرتبة الشيخ المطلق والعارف المحقق والمحبوب المعتق الذي وسع الحق قلبه فلم يعد يبالي او ينشغل بغيره.
نخلص إلى أن السعادة المقصودة سعادة وجدانية تمس الإنسان بإعتباره روحا في المقام الول والأخير،ورغم اختلاف المتصوفة عن الفلاسفة، إلا ان موقفيهما يعكس تأثير الشريعة والدين من حيث نبذ اللذة الحسية البدنية والتركيز على الروح والنفس. ولكن أليست هذه السعادة أحادية الجانبتتطلب مجهودا يتجاوز قدرة الإنسان وينفيه من حيث هو إنسان أي كلية مركبة من جسم وعقل ووجدان..؟أليست هذه سعادة فوق مستوى الإنسان مثلما أن سعادة اللذة الحسية دون مستوى الإنسان؟

السعادة إحساس فردي  أم شأن جماعي

قام حديثنا عن السعادة على فرضية ضمنية مؤداها ان السعادة شأن فردي. وقد أن الأوان لمراجعة هذه الفرضية متسائلين: هل السعادة مجرد حالة نفسية وشعور فردي يحسه الإنسان في أعماقه بعد تحقق هذا الشرط أو ذاك؟ أم أن للسعادة أيضا بعدا جماعيا؟
إذا مااستثنينا مذهب الصوفية وتصورهم للسعادة كحالة فردية تستدعي خلوة بالنفس وانقطاعا عن الناس لأن " مخاطة الأغيار مجلبة الأكدار "، لوجدنا أغلب فلاسفة الإسلام يتوقفون عند عنصر أو الجماعة أو المدينةكشرط لازم لحصول سعادة الفرد: فالفارابي مثلا يرى أن الإنسان محتاج في حياته إلى التعاون مع بني جنسه من أجل تحقيق حاجاته الضرورية وتحصيل السعادة، لأن هده الإخيرة متوقفة على حسن تدبير الفرد لنفسه وحسن التدبير المدني للجماعة، والمقصود بحسن التدبير المدني توزع الأعمال بين الناس تبعا لطبائعهم وإلا اختل النظام، تماما كالجسم الذي تتعاون أعضائه كل حسب طبيعته ومنزلته، لحفظ صحته وبقائه يخدم أدناها أعلاها. وكذلك فسعادة الجماعة تعني حصول الإنسجام والتعاون والنظام بين أفراد الجسم الإجتماعي.
أما مسكويه فيرى أنه لما كانت السعادة متوقفة على تحقق الإنسان لكماله النظري والعملي، ولما كان هذا الأخير يفيد تدبير الأفعال طلبا للفضائل الأخلاقية، فلاغنى عن الجماعة لحصول السعادة، لسبب بسيط هو أن فضائل النفس لاتتمظهر إلا بمخالطة الناس ومعاشرتهم، عكس مايعتقد أهل الولاية والعرفان من المتصوفة والزهاد ممن يختارون العزلة والخلوة: فمن لم يخالط الناس ويساكنهم في المدن والجماعات كيف تظهر فيه العفة أو النجدة أو السخاء أو العدالة؟

 

 

Aujourd'hui sont déjà 2 visiteurs (4 hits) Ici!
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement